مقدمة كتاب علم النفس الانساني
عادة ما يتوقع الدارسون لعلم النفس أن يدرسوا الناس كما يدركونهم فـي اتصالاتهم اليومية العادية. وحينما يمضون فـي برنامج الدراسة يصير بعض الطلاب فـي حالة من الحيرة والارتباك إزاء الموضوعات التي يتناولها البرنامج. فهم يدرسون، بتفصيل هائل، الإحساس والإدراك والتعلم والدوافع والانفعالات وغير ذلك من الأنشطة الإنسانية، ولكن لا يحدث أن تتكامل هذه الموضوعات فـي صورة تمثل الإنسان.
تبدو «الذات» (self)، التىِ يدركها أي فرد كنقطة بؤرية، مُجزَّأة إلى عدد من العمليات. ويتعرض وجود الـ «أنا» الحقيقية ( “real “I)، بالرغم من عدم إنكارها، للإغفال والغياب. ومن الأفضل أن نتجنب الكلام عن «الذات» خشية أن نخطىء ونعتبرها «إنساناً صغيراً داخلنا». بل إن تناول الشخصية يهتم بالسمات وبقياسها أكثر من اهتمامه بنظرية تولي اعتباراً كافياً لخصائص مثل الإبداع، والاستقلال الذاتىِ، والمعنى، والتسامىِ، والمرونة، وتنوع من الجوانب الأخرى غير الآلية للسلوك.
ويقدم العلماء- المعلمون إيضاحات مختلفة لتحييد المشاعر السلبية لدى طلابهم. يقولون، على سبيل المثال، أن البرنامج الأول فـي أي علم يعمل فحسب على مجرد مسح الميدان ولا يراعي أنه يحيط به ويستوعبه. ويوعزون إلى الطالب بأن يتذكر أن الإنسان أعظم كيان معقد فـي الطبيعة، وبأنه قبل محاولة تقديم بنية مركبة كلية عنه، علينا أن نتحقق من ملايين الحقائق الصغيرة وأن نوائمها معاً. وربما يتمكن علماء النفس فـي المستقبل من التنبؤ بالسلوك بدقة، إلا أنه فـي الوقت الحاضر ينبغي أن يتعلم الطالب جيد التوافق أن يتحمل قدراً معيناً من الغموض. وعلى أية حال، إذا كان ينشد أن يجعل من علم النفس عمله فـي الحياة، فإنه ينبغي أن يهتم بغرس اتجاهات علمية أكثر من اهتمامه بمشاعر غامضة عن «الاهتمام بالناس».
وبالرغم من أن إيضاحات كهذه تكون مفيدة داخل قاعات الفصل، لكن لا يقتنع كل السيكولوجيين بدرجة متساوية بأنهم هكذا يقدمون حلولاً للمشكلة. لقد تصاعدت صيحات تؤكد الحاجة إلى إعادة النظر فـي الفروض الأساسية التي تقوم عليها السلوكية والتحليل النفسي – القوتان الهائلتان فـي علم النفس الأمريكي، اللتان قدمتا لعلم الإنسان إسهامات هائلة: أحدهما بتطويره لطرق موضوعية دقيقة للبحث، والآخر باقتراح نظرية كلية عن الديناميات الإنسانية. ولكنهما لم يحققا كلية ما ننشده من علم النفس. فالمدرسة السلوكية تعزل، على نحو سطحي، الأنشطة العقلية كسلوك مشروط بالتواصل اللفظي، أو تتجاهلها كأنشطة غير قابلة للمعرفة بأي طريقة دقيقة بالرغم من أن الحياة بدون خبرة واعية تفقد كل معنى.
أما مدرسة التحليل النفسي التقليدية برغم ما تبدو عليه من أنها تتناول جوانب معينة من التوظيف العُصابي، تخفق فـي أن تفيد الشخصية السوية وتكشف عنها. فالدور المبالغ فيه لـ «الهو» (ID) بوساوسها القهرية العمياء المتمركزة حول الذات حيال اللذة الجسمية – يبدو غير ملائم لتفسير الاجتهاد أو السعي المتصل الموجه إلى الخارج، خارج الذات، لدى الشخص السوىِ.
إن علم النفس الإنساني هو حركة جديدة، أشاروا إليها فـي بعض الأحيان على أنها «القوة الثالثة» (Third Force) بين السلوكية والتحليل النفسي، وهو يهدف إلى تقديم «توجه جديد» لعلم النفس أكثر من أن يهدف إلى تقديم علم نفسي جديد. وينشد، من خلال النقد البناء والبحوث الرصينة، أن يصل بعلم النفس باختلاف نظرياته إلى ارتباط أوثق بإدرا كاتنا اليومية للإنسان. وتحدد دراسات «الجمعية الأمريكية لعلم النفس الإنساني»(1) دوره على النحو التالىِ:
«يمثل علم النفس الإنساني بالدرجة الأولى اتجاها نحو «كلية أو وحدة علم النفس» (whole of psychology) أكثر من أن يمثل ميدانا أو مدرسة محددة. وهو يناصر احترام القيمة الذاتية للأشخاص، واحترام الاختلافات فـي الاتجاهات، وتفتح العقل للأساليب العقلانية، والميل إلى الكشف عن الجوانب الجديدة للسلوك الإنساني. ويهتم «كقوة ثالثة» فـي علم النفس المعاصر، بالموضوعات التي تحتل مكانة ضئيلة فـي النظريات والنظم القائمة، مثل: الحب، والإبداع، والذات، والنمو، والكيان العضوىِ (الأورجانزم)، وإشباع الحاجات الأساسية، وتحقيق الذات، والقيم العليا، والوجود، والصيرورة، والتلقائية، واللعب، والمرح، والبهجة، والسجية الطبيعية، والدفء، والتسامي، والموضوعية، والاستقالال الذاتي، والمسئولية، وبناء المعنى ومعنى الحياة، والعقلانية وتفتح العقل، والتجلي والاستنارة، والعدالة فـي اللعب، والخبرة المتسامية، وقمة الخبرة، والشجاعة، والسعادة، والرفاهة، وما يرتبط بهذه الموضوعات من مفاهيم وآفاق للبحث والعمل والتطبيق.
(يتضح هذا المنحى فـي كتابات ألبورت، أنجوال، آخ، بوهلر، فروم، جولدشتين، هورني، ماسلو، موستا كاس، روجرز، فرتيمر، وإلى حد ما فـي كتابات يونج، وآدلر، وعلماء النفس التحليليين المهتمين بالأنا psychoanalytic ego-psychologists وعلماء النفس الوجوديين والفينومينولوجيين).
وتتمثل المجالات الثلاث الأساسية فـي علم النفس الإنساني فـي الأقسام المتضمنة فـي المجلد الحالي: يتناول الجزء الأول تطور مفهوم عن الطبيعة البشرية يضع فـي الاعتبار وحدة الشخصية unity of personality، والعزم الذاتي self determination، وأولية الذات primacy of self.. ويقدم الجزء الثاني إعادة نظر نقدية للافتراضات الأساسية للمنهج السيكولوجي فـي محاولة لاكتشاف الطرائق المناسبة لتناول الخبرة المباشرة؛ وتعتبر العمليات الواعية بيانات صادقة للبحث السيكولوجي. أما الجزء الثالث، فيهتم بالقيم والاجتهادات أو المساعي الداخلية inner strivings، وبالإبداع، وتحقيق الذات، وغير ذلك من النشاطات الإنسانية المميزة.
ومما تجدر ملاحظته منذ البداية أن مؤلفي هذه الكتابات لا يتكلمون بصوت واحد. وإذ يواصل علم النفس الإنساني تقدمه، يبدي بعض العلماء إهتماماً بحانب معين من هذه الحركة أكثر من الجوانب الأخرى. وقد يكون مصطلح «علم النفس الإنساني» كذلك مصطلحاً مُضللاً. فعادة ما يعيد «المذهب الإنساني» (Humanism) إلى ذاكرتنا العلماء الكلاسيكيين القدامي أو الكتابات الأدبية بصفة عامة. ولكن ينطوي هذا المجلد على اتجاه نحو علم النفس يؤكد على الصفة أكثر من الإسم فـي الحيوان الإنساني، كما يحدده تقريباً «جوزيف وود كروتش» فـي دراسته عن «معنى المذهب الإنساني»
«لقد جرى استخدام «المذهب الإنساني» ليعني أشياء كثيرة جداً لكي يؤلف مصطلحاً يلقى قبولاً. ومع ذلك، ومع عدم توفر كلمة أفضل، سوف أستخدمه هنا لكي أقف على مجموعة الاتجاهات التي تتولى هذه المناقشة الدفاع عنها».
«وبهذا المعنى يكون العالم الإنساني Humanist هو أي شخص يرفض محاولة وصف الإنسان أو تناوله على أساس علم الطبيعة والكيمياء والسلوك الحيواني. هو أي شخص يعتقد أن الإرادة والعقل والهدف والمعنى حقيقية وهامة؛ وأن القيمة والعدالة جوانب للواقع معروفة بالخير والشر وتقوم على أساس معين أكثر من أن تقوم على العرف أو العادة؛ وأن الوعي أبعد من أن يكون مجرد ظاهرة مضافة epiphenomenon وإنما يمثل أعظم الحقائق الواقعية؛ وأن ما هو غير قابل للقياس قد يكون ذات قيمة؛ أو باختصار، تعتبر تلك الحقائق الإنسانية التي تبدو فـي بعض الأحيان متوفرة فحسب فـي العقل الإنساني هي من إدراكات ذلك العقل، أكثر من أن تكون من مجرد خلق ذلك العقل. وبقول آخر، العالم الإنساني هو أي شخص يقرر أن هناك أشياء فـي السماء والأرض أكثر مما يُحلم به فـي الفلسفة الوضعية».
خلافاً للإنسان البدائي الذي التفت إلى كل شىء متحرك، أو الإغريق الأوائل الذين مجدوا كل جوانب وقوى الطبيعة، يبدي الإنسان المعاصر قلقه إزاء إغفال شخصيته depersonalization (أو الإقلال من تضمينها impersonalization) فـي كل ما يعجب به ويقدره للغاية. ويرجع هذا الميل إلى سببين: الأول هو التحليل، تلك الأداة العجيبة للبحث العلمي التي بفضلها يدين بكل تقدم ولكنها – بإسقاطها لتركيب synthesis بعد الآخر – تدفع بعقل وراء الآخر إلى الهرب، تاركة إيانا نواجه كومة من الماكينات المفككة والذرات المتحللة. أما السبب الثانى، فيكمن فـي اكتشاف دنيا الفلك التي باتساعها تبدو وكأنها تعمل بعيداً بكل تناسق بين وجودنا وأبعاد الفضاء المحيط بنا».