مقدمة كتاب التدخل المبكر لطفلك المشخص بالتوحد
إذا كنت والدًا -أو والدة- لطفل شُخِّص حديثًا بالتوحد، فأنت لست وحدك. وجدت دراسة أجراها المركز الأمريكي لمكافحة الأمراض والوقاية منها في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا عام 2009 أن اضطراب طيف التوحد يصيب طفلًا واحدًا من كل 110 أطفال في الولايات المتحدة، مما يعني أن مئات الآلاف من الآباء والأمهات قد اكتشفوا إصابة طفلهم باضطراب طيف التوحد. سيُشخَّص بالتوحد هذا العام عدد أطفال أكبر ممن سيُشخَّصون بأمراض التليف الكيسي والإيدز والسرطان مجتمعةً. يصيب التوحد الأطفال من جميع الخلفيات الاقتصادية والعرقية بالقدر نفسه. لست وحدك من تجتاحه فوضى المشاعر والأسئلة والمخاوف التي لديك الآن، ولكن اطمئن، فآباء الأطفال المشخصين حديثًا بالتوحد وأمهاتهم، عند التزود بالمعرفة والمهارات السليمة، يصبحون قادرين على وضع الأمور في نصابها الصحيح لينعم الطفل بحياة مُرضية وسعيدة؛ إذ أصبح بمقدور الطفل المشخص بالتوحد في الآونة الأخيرة أن ينعم بحياة هادفة ومثمرة ومرضية. سيساعدك هذا الكتاب على اتخاذ إجراءات الآن من شأنها أن تضعك أنت وطفلك على الطريق الصحيح المؤدي إلى هذه الحياة. هدف هذا الكتاب هو تزويد الآباء والأمهات( ) وغيرهم ممن يحبون الطفل ويقومون على رعايته بالأدوات والاستراتيجيات لمساعدة أطفالهم على التقدم في مسارٍ تطوري إيجابي بأسرع وقت ممكن. مهما بدت لك الحياة صعبة في الوقت الحالي، ثمة أمور تستطيع فعلها بدءًا من الغد ستُحدث -بمرور الوقت- فرقًا هائلًا في مستقبل طفلك. يمكنك تعليم طفلك التفاعل معك ومع الآخرين، والتواصل، والاستمتاع بالتفاعلات الاجتماعية المتبادلة، واللعب. يمكنك أن تتطلع إلى أن يتمكن طفلك من التعلم والمشاركة وفهم الآخرين. نعلم أن كثيرًا من الآباء والأمهات قد وجدوا أنفسهم وحدهم في محاولة تدبر أمورهم لفترةٍ بعد تشخيص طفلهم بالتوحد؛ فإما لا يتوافر في منطقتهم معالجون مدربون، وإما يجدون قوائم انتظار طويلة للانضمام إلى برامج التدخل. نعلم أنك لا يسعك الانتظار للبدء في مساعدة طفلك؛ لذا، فمن أجل التخفيف من وطأة مشاعر الإحباط والتوتر والقلق في أثناء انتظار بدء التدخل، أو لتعزيز التدخل الذي يتلقاه طفلك الآن إذا كان يتلقى تدخلًا بالفعل، نقدم في هذا الكتاب معلومات وأدوات واستراتيجيات تستطيع استخدامها على الفور بمفردك. الاستراتيجيات الموضحة هنا مصممة بهدف استخدامها خلال تفاعلاتك اليومية مع طفلك، مثل: اللعب وارتداء الملابس وتغيير الحفاضات والاستحمام وتناول الوجبات والنزهات وقراءة الكتب وحتى الأعمال المنزلية. وهذه الاستراتيجيات من شأنها تحويل تجاربك اليومية مع طفلك إلى فرص تعلُّم ثرية، كما يمكنها أيضًا أن تعزز علاج الطفل مع المضي في استخدامها بمجرد بدء التدخل. ومع تطبيق هذه الاستراتيجيات، نثق في أنك ستساعد طفلك على التعلم والتواصل واللعب. ومن المحتمل أن تلاحظ تغييرات في طفلك يومًا بعد يوم وأسبوعًا تلو الآخر. عندما تبدأ في استخدام هذه الاستراتيجيات، سترى بنفسك قدرتك على مساعدة طفلك المشخص بالتوحد بفعالية ومدى استجابته لفرص التعلم الجديدة. نأمل أن تتلاشى بعض مشاعر الخوف والإحباط التي لديك وتحل محلها مشاعر الأمل والعزم والثقة في نفسك كوالد وفي أسرتك وفي طفلك. يقوم هذا الكتاب على عملنا المكثف والمتواصل مع أُسرٍ كأسرتك، بالاعتماد على نموذج دنفر للتدخل المبكر لمساعدة الطفل على أن يصبح متعلمًا متفاعلًا نشِطًا ومحبًّا للاستطلاع ومنخرطًا في العالم من حوله. إن الاستراتيجيات، التي ستتعلمها في هذا الكتاب، مستمدة من الدراسات العلمية الرسمية التي تبرهن على التطور المتسارع الذي يشهده الأطفال عند تقديم نموذج دنفر للتدخل المبكر جنبًا إلى جنب مع استخدام الوالدين لهذه المهارات. مع أن الأطفال المشخصين بالتوحد يستفيدون من خدمات التدخل المبكر المكثفة، التي يقدمها مختصون مدربون، ويحتاج هؤلاء الأطفال إليها، فإننا نعتقد أن الوالدين ومقدمي الرعاية الآخرين في الأسرة يمكنهم صنع فرق هائل في تعلُّم أطفالهم. لقد عملنا، نحن المؤلفات الثلاث للكتاب، لسنوات عديدة بصورة مباشرة كأطباء ممارسين نضطلع بتعليم العائلات كيفية تشجيع المشاركة والتعلم والتواصل لدى الأطفال خلال أنشطة الروتين اليومي التي تحدث بصورة طبيعية يوميًّا. ولقد وجدنا أن للوالدين دورًا فعالًا في تعليم المهارات الأساسية التي تتأثر سلبًا بالتوحد، شأنهم شأن المعالجين؛ إذ يمكنهم استخدام هذه الاستراتيجيات للاستفادة من كل تفاعل مع الطفل في التعلم. كما تتوافر لدى الوالدين أيضًا الفرصة لتعليم الطفل في المنزل المهارات أو السلوكيات التي قد لا يتعلمها في مكانٍ آخر أو قد لا تُتاح له فرصة كبيرة لممارستها في بيئات أخرى. علاوةً على ذلك، يدعم نموذج دنفر للتدخل المبكر علاقات الوالدين بطفلهما؛ فيساعد الوالدين في تطوير فرص التعلم من خلال الألعاب البسيطة والتفاعلات القائمة على التواصل في أثناء تقديم الرعاية والأنشطة الممتعة الأخرى خلال الروتين اليومي. وليس من الضروري أن تكون لدى الوالدين خلفية خاصة أو معرفة مسبقة؛ فالاستراتيجيات الموضحة هنا مُعَدَّة للمساعدة في جعل تفاعلات الوالدين مع الطفل أكثر متعةً ومرحًا وثراءً عاطفيًّا وأكثر جدوى، بينما توفر -في الوقت نفسه- للطفل مزيدًا من فرص التعلم. ونأمل أن يجد الآباء والأمهات من مختلف مناحي الحياة والخلفيات هذه الاستراتيجيات فعالةً في تطوير تجارب تعلُّم أكثر ثراءً لأطفالهم بالاعتماد على الأنشطة اليومية التي تشمل اللعب بالألعاب أو الاستحمام أو تناول الوجبات أو التسوق من متاجر البقالة أو الأنشطة الأخرى في حياتهم اليومية. نتفهم أيضًا أن كل طفل مشخص باضطراب طيف التوحد يختلف عن الآخر؛ إذ يتمتع كل منهم بمجموعة خاصة من القدرات والمواهب والتحديات الفريدة. كما قال أحدهم ذات مرة: «إذا قابلت طفلًا مشخصًّا بالتوحد، فقد قابلت حالةً واحدة مشخصة بالتوحد». لكل طفل مشخص بالتوحد -شأنه شأن غيره من الأطفال الذين ينمون على النحو المعتاد- شخصية فريدة وأمور يحبها وأخرى لا تعجبه وقدرات ومواهب وتحديات مختلفة، لكن جميع الأطفال الصغار المشخصين بالتوحد -بطبيعة الحال- يواجهون صعوبةً في التفاعل والتواصل مع الآخرين واللعب بالألعاب بالطريقة العادية. لقد تعلمنا الكثير عن أنواع الصعوبات التي يعانيها الأطفال الصغار المشخصون بالتوحد بناءً على عقود من الأبحاث بشأن المراحل المبكرة للنمو والتدخل المبكر مع أطفال التوحد. قد يصعب على هؤلاء الأطفال الانتباه إلى الأشخاص من حولهم، بما في ذلك الانتباه إلى لغتهم وأنشطتهم. وكثيرًا ما تصعب عليهم مشاركة مشاعرهم -السعادة والغضب والحزن والإحباط- مع الآخرين عن طريق إرسال رسائل عاطفية إليهم من خلال تعبيرات الوجه أو الإيماءات أو الأصوات أو الكلمات؛ فهم يشعرون بجميع المشاعر المختلفة ولكنهم قد لا يعبرون عنها بطريقة يسهل فهمها. وقد لا يهتمون بدرجة كبيرة باللعب مع الأطفال الآخرين، ولا يستجيبون جيدًا لمحاولات الأطفال الآخرين للعب معهم؛ وفي أغلب الأحوال لا يستخدمون الكثير من الإيماءات للتواصل ولا يبدو أنهم يفهمون إيماءات الآخرين، ومن غير المرجح أن يحاكوا الآخرين بسهولة. لذلك، قد يكون من الصعب تعليمهم من خلال إيضاح كيفية فعل أمر ما وتوقع منهم محاكاته. يستمتع كثير من الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد بالألعاب، لكنهم غالبًا ما يلعبون بها بطرق غير مألوفة، ويمكن أن يتسم لعبهم بالتكرارية الشديدة. وأيضًا قد يصعب على كثير من الأطفال المشخصين بالتوحد تطوير الكلام والاستجابة لحديث الآخرين، وينطبق هذا حتى على أولئك الذين يتعلمون كيفية ترديد كلمات الآخرين. فضلًا عن ذلك، من الشائع أن تكون لدى الأطفال المشخصين بالتوحد بعض «التحديات السلوكية»، وغالبًا ما تظهر هذه التحديات السلوكية على الأطفال الصغار الآخرين أيضًا، لكن الأطفال الصغار المشخصين بالتوحد لا يستجيبون للطرق التقليدية التي يستخدمها الوالدان لتقويم سلوك الأبناء؛ فقد يدخلون في نوبات غضب، ويضربون الآخرين أو يعضونهم، ويحطمون الأشياء، ويؤذون أنفسهم أحيانًا (وهذا ما يُطلَق عليه سلوك إيذاء الذات). ستتعرف من خلال هذا الكتاب على استراتيجيات لمساعدة طفلك في كل من هذه الجوانب. أظهرت كثير من الدراسات -بما في ذلك الدراسات التي أجريناها بأنفسنا- أن التدخل المبكر يمكن أن يكون مفيدًا بدرجة هائلة للأطفال المشخصين بالتوحد، مما يؤدي إلى تحقيق مكاسب كبيرة على صعيد التعلم والتواصل والمهارات الاجتماعية. يترتب على التدخل المبكر في بعض الحالات أن بعض الأطفال يتغير تشخيصهم باضطراب طيف التوحد، وقد يظل بعضهم يواجه تحديات ولكنهم يكونون قادرين على المشاركة جيدًا في الصفوف الدراسية العادية، وإقامة صداقات، والتواصل مع الآخرين جيدًا. ومع ذلك، قد يعاني أطفال آخرون تحديات كبيرة تتطلب خدمات خاصة دائمة، لكن التدخل المبكر سيساعدهم على إحراز التقدم. ركزت معظم الأبحاث بشأن التدخل المبكر على الدراسات التي يتولى فيها اختصاصيون مدربون تقديم العلاج. ومع أن الأبحاث، التي تتناول التدخل المبكر الذي يقدمه الوالدان، ما زالت في مراحلها الأولية، فقد أظهرت الدراسات أن الوالدين ومقدمي الرعاية الآخرين يمكنهم تعلُّم استخدام كثير من استراتيجيات العلاج بالإضافة إلى المعالجين المدربين، وأن جودة تفاعل الوالدين مع الطفل -عندما يستخدمان هذه الاستراتيجيات- تتحسن، ويصبح الطفل أكثر تفاعلًا على المستوى الاجتماعي ويتعلم التواصل مع الآخرين بصورة أفضل. لقد ساعدنا الكثير من الآباء والأمهات على تعلُّم استخدام هذه الاستراتيجيات في المنزل مع أطفالهم الصغار، وأخبرونا مرارًا وتكرارًا بمدى فائدة هذه المناهج في تعليم أطفالهم التعلم والتفاعل مع الآخرين والتواصل واللعب بالطرق التقليدية. في ضوء عملنا مع أطفال كثيرين على مر السنوات، اكتشفنا أن كل طفل مشخص باضطراب طيف التوحد يستطيع تعلُّم التواصل وتطوير التفاعلات الاجتماعية مع الآخرين وزيادة مهارات اللعب، ونحن على ثقة في أن هذه الأساليب ستسهم في شعورك بنجاح أكبر في دورك كأب أو أم ورفيق في اللعب ومعلم أول لطفلك. عندما تستخدم الأساليب المطروحة وترى طفلك يتعلم منها، ستشعر بالفخر والسرور النابعين من رؤيته وهو يحقق الإنجازات ومعرفة أنك شاركت في نجاحاته. يستهدف هذا الكتاب الآباء والأمهات الذين يعاني أطفالهم الصغار أعراض اضطراب طيف التوحد في سن الرضاعة ومرحلة الروضة أو ما قبل الالتحاق بالمدرسة. تستطيع الاستعانة بالكتاب سواء كنت تشك في إصابة طفلك باضطراب طيف التوحد أو شُخِّصت إصابته به بالفعل. سيقدم لك الكتاب إرشادات وأمثلة خطوة بخطوة تتيح لك استخدام الأنشطة اليومية المعتادة لمساعدة طفلك على أن يصبح أكثر انخراطًا وتواصلًا وتفاعلًا معك ومع أسرتك. كيف تستفيد من الكتاب كل فصل من هذا الكتاب مُعَدٌّ لتناول الأسئلة والمخاوف والتحديات التي يواجهها معظم آباء الأطفال الصغار المشخصين باضطراب طيف التوحد وأمهاتهم. من بين القضايا التي نتناولها، المشاعر والمخاوف المتعلقة بمواصلة الحياة كأبٍ أو أمٍ لطفل مشخص بالتوحد، وذلك يتضمن معرفة ما عليك فعله في هذه المرحلة المبكرة. لا بد من أن التفكير في الحصول على أفضل مساعدة متخصصة هو أول ما ستفكر فيه؛ لذلك، تناولنا هذا الموضوع في الفصل الأول. ونظرًا إلى أن تربية طفل مشخص بالتوحد ربما تكون أمرًا شاقًّا، سيتعين عليك أن تبدأ هذه الرحلة بالتفكير في كيفية الحرص على الاهتمام بالنفس وبقية أفراد الأسرة، وتجنب تنحية تلك الاحتياجات جانبًا للتركيز على الطفل المشخص بالتوحد فقط، فهذا سيؤدي إلى تحقيقك نجاح أقل وزيادة احتمالية تعرضك إلى الإصابة بالإرهاق في هذه الأثناء؛ ويناقش الفصل الثاني هذه الموضوعات. وبعد ذلك، بهدف إرساء الأساس لاستراتيجيات التدخل الموضحة في الفصول المتبقية، يقدم الفصل الثالث فهمًا أساسيًّا لما يعرفه العلم حاليًّا عن اضطراب طيف التوحد، مما يضع منهج العلاج المُقدَّم في هذا الكتاب بسياقه المناسب. كما يستعرض كل فصل من الفصول المتبقية استراتيجيات التدخل بالتفصيل، وسيعتمد كل فصل على الفصول التي تسبقه. لذلك، سيكون من المنطقي قراءة الفصول بالترتيب. ومع ذلك، لا يعتمد الفصلان التاسع والثالث عشر على الفصول السابقة مثل بقية الفصول، فقد تجد أنه من المفيد قراءتهما أولًا ثم الرجوع إليهما في ما بعد خلال قراءة الكتاب. تجدر الإشارة إلى أننا ندرك أن بعض الآباء والأمهات سيجدون بعض الفصول مفيدةً أكثر من غيرها، ويعتمد ذلك على التحديات الفريدة التي يواجهها أطفالهم. عندما تبدأ ممارسة استراتيجيات التدخل ودمجها في تفاعلاتك اليومية مع طفلك، ضع في اعتبارك أن الهدف من هذا الكتاب ليس تحويلك من والدٍ إلى معالج! ولا أن تقضي ساعات طويلة مع طفلك في «تقديم العلاج»، بل إن القصد من هذه الاستراتيجيات هو استخدامها خلال الروتين المعتاد الذي يشكل جزءًا من خبراتك اليومية مع الطفل، مثل وقت الاستحمام أو في الحديقة أو في أثناء وضع طفلك في الفراش، ولا ينبغي أن تستغرق وقتًا أطول مما تستغرقه أنشطتك المعتادة مع طفلك. تعتمد هذه الاستراتيجيات على علاقة المحبة والاهتمام التي تربطك بطفلك بالفعل، وتستخدم هذا الأساس لمساعدة طفلك في التغلب على بعض الصعوبات التي تشكل جزءًا من اضطراب طيف التوحد. لذا دعنا نبدأ.