مقدمة كتاب| مذكرات روميل
لقد أحدث روميل تأثيرا كبيرا في العالم بسيفه، وزاد من عمق هذا التأثير ببلاغه قلمه، لأن أي قائد آخر في التاريخ لم يستطع كتابة قصة حملاته بطريقة تضاهي في حيويتها وقيمتها كتابات روميل، والتي جمعت أغلبها في هذا المجلد، بعد أن أمكن إخراجها من مخابئها المختلفة.
علاوة علي أن أي قائد آخر لا يستطيع تصوير (عملياته وأسلوبه في القيادة) بمثل هذه الطريقة، كما أنه لا يمكن لأي قائد أن ينقل (عن طريق الكتابة) ديناميكية الحرب الخاطفة وسرعة قوات البانزر. وسنحس بالحركة السريعة والقرارات الحاسمة كثيرا خلال أجزاء هذا الكتاب، بحيث أن القارئ سيشعر كما لو كان يتحرك مع روميل في عربة قيادته.
وأغلب القادة العظام كانوا كتابا فاشلين، فبجانب افتقارهم للمهارات الأدبية في وصفهم لأعمالهم، كانوا علي الدوام ميالين للغموض بالنسبة لطريقة التي يفكرون بها وفي وصفهم لأعمالهم، ولذلك لم يقدموا للأجيال التي تلتهم إلا القليل عن هذا الفن إلا أن نابليون استثني من هذه القاعدة، ولكن كتاباته كانت قليلة القيمة لتقديره للأمور بطريقة تفوق المعتاد علاوة علي تعمده، (علي الدوام) المبالغة في تضخيم القوي التي أمامه، ولذلك نجد أن كتاباته لم تكن زاهية فحسب بل كان يسودها أغراض الدعاية.
أما كتابة روميل فكانت موضوعية للغاية، وبالإضافة إلي كونها تفصيلية، وكان بالطبع يرمي (مثل بقية الرجال الذين صنعوا التاريخ) أن يضمن مكانه في التاريخ. ولكنه في الوقت نفسه كانت تظهر أثناء تفسيره للأحداث رغبة منطقية تبين الانفعالات التي تجيش في نفسه، إلا أن هذا كان يحتل مكانا ثانويا بالنسبة لاهتمامه المتلهف بالدروس العسكرية المستفادة من الحملات.
وكتابات روميل تعتبر من المصادر القيمة، إذا قورنت بالمصادر الأخري، علاوة علي أنها استطاعت الصمود في وجه النقاد، أثناء تحليلهم لها. وربما أمكن العثور علي بعض الأخطاء في كتاباته، ولكنها في الواقع تقل كثيرا عن الكتابات الرسمية والشخصية التي كتبت في هذا الموضوع بعد انتهاء الحرب بمده.
وربما كانت هناك آراء كتبها روميل، قابلة للمناقشة، ولكنها لم تكن متعمدة (بغرض التشويه) لأسباب قومية وشخصية.
ويمتاز روميل في تصويره للعمليات بالوضوح والدقة الكبيرة مما زاد من قيمة كتابته. وتدين دقة تصويره لأسباب كثيرة منها أسلوبه في القيادة وعادته في الاندفاع للأمام محاولا أن يكون دائما في المكان والوقت المناسبين. كما أنها تدين أيضا بالكثير لتدريبه الذاتي في الملاحظة وتطويره لها، بحيث يمكنه الإلمام بجميع المعلومات عن أي هيئات وفي وقت قصير، علاوة علي تسجيلها في مخيلته. ومن مظاهر هذه الميزة، غرامه الكبير بالتقاط الصور لكل خطوة يتقدمها (كما كان الأمر مع لورنس في مسرح عمليات الشرق الأوسط في الحرب العالمية الأولي).
وهناك تشابه ملحوظ بين هذين القائدين البارعين بالنسبة لحرب الصحراء (علي الرغم من الفارق في طباعهما ومستوي دراستهما وفلسفتها). فقد كان متقاربين في إحساسهما بالوقت وعلاقته بالمكان، وفي قدرتهما علي تحقيق المفاجأة بطريقة غريزية، وقدرتهما علي تحليل الأرض وانتهاز الفرص، والجمع بين المرونة والقدرة علي التنبؤ وتقديرهما لأهمية القيادة الشخصية المباشرة.
وكانت تربطهما رابطة أخري حربية، وهي أهمية خفة الحركة الميكانيكية في حرب الصحراء، وقد بين هذا ( ولو بطريقة مرتجلة وعلي نطاق مصغر للغاية)، باستخدامه لحفنة من السيارات المدرعة والطائرات في حرب الصحراء. وقطعا كان استغلال هذه الإمكانات علي النطاق الواسع سيبهج لورنس لانه كان عليما بفن الحرب ويمتاز بميوله الثورية.
2- مجالات روميل الجديدة عن حرب الصحراء:
ولقد ولد روميل ليكون كاتبا، بالإضافة إلي أنه مقاتل بطبيعته فكان يجب التعبير عما يجيش في نفسه علي الورق بالإضافة إلي عمله، وقام بذلك قبل أن يشتهر كقائد ناجح ، فقدم بحثا في تكتيكات المشاة، واستمد هذا البحث من تجاربه الشخصية كضابط صغير في الحرب العالمية الأولي، ومن تأملاته عنها.
وكان أغلب الكتب الرسمية عن التكتيك في ذلك الوقت مملة للغاية ولكن بحثه تميز بالحيوية والتشويق، ويمكن أن نلمس هذه الهبة التعبيرية في الطريقة التي يرسم بها علي الورق (سواء بالقلم العادي أو بأقلام الشمع الملونة) أثناء تحضيره للعمليات التي سيقوم بها أو التي يتخيلها.
وقد علق بخياله أثناء فترة نشاطه في الحرب، مشروعاً لكتاب عن العمليات في الحرب العالمية التانية، ولذلك أخذ يجمع دائما ملحوظاته عنها لهذا الغرض، وكلما توافرت له الفرصة كان يحول هذه المذكرات إلي سرد تاريخي منظم. ولكن هتلر أمر بموته فمنعه هذا من أن يتم هذا الموضوع، ولكن ما كتبه حتي ذلك الوقت يعتبر كتابا ولا يمكن مقارنته بأي شبيه له في هذا الوقت وربما كان ينقصه الصقل ولكن قوته التعبيرية كانت بارزة للغاية.
فبجانب وضوح الوصف، يتميز بالإثارة الدرامية، علاوة علي التعليقات التي تصاحب وتوضح الموضوع.
أما ما كتبه روميل عن “قواعد حرب الصحراء” فيعتبر مساهمة عظيمة في ميدان الفكر العسكري وخاصة التعليقات الحكيمة التي تملأ الكتاب كله، وكلها عن مجالات جديدة: عن الحشد زمنا وليس مكانا وعن أثر السرعة في مواجهة تفوق العدو، وعن المرونة كوسيلة للمفاجأة، وعن الأمن الذي توفره الجرأة، وعن خلق مستويات جديدة وعدم الرضوخ للأمر الجاري، وعن قيمة الرد غير المباشر (وليس المباشر) علي تحركات العدو، وعن الطريقة التي يمكن بها تعويض النقص في استخدام القوة الجوية (وهذه مراجعة جذرية لقواعد الحرب البرية)، وعن عدم جدوي الأعمال (الانتقامية وجنون الوحشية) دون تمييز، وعن عدم فاعلية انعدام الضمير.
وكنت أنظر إلي روميل علي أنه رجل تكتيكي عظيم، وقائد مقاتل بارع، ولكنني لم أدرك درجة تعمقه في الإستراتيجية، (أو بالأحري درجة تمكنه منها في خلال تأملاته) إلا بعد اطلاعي علي أوراقه الشخصية. وفوجئت عندما وجدت هذا القائد (المندفع) يفكر بهذه الدرجة من العمق، ووجدت أن جرأته كانت ترجع أصلا إلي دهائه. وفي حالات معينة يمكن انتقاد بعض تصرفاته علي أنها اندفاع وتهور، ولكن لا يمكن اعتبارها ضربات مقامر أعمي، عنيف الطباع.
وإذا حللنا عملياته، لوجدنا أن بعض ضربات روميل التي فشلت ونتجت عنها عواقب وخيمة بالنسبة له، كانت ستؤدي إلي عواقب أكثر لخصومه، علاوة علي أنها أثرت تأثيرا كبيرا فيهم، فمكنته من الإفلات بجيشه من هذا المأزق بسهولة تامة. (ويمكن قياس القادة بالدرجة التي يؤثرون بها في خصومهم).
وبهذا المقياس يكون مكان روميل مرتفعا للغاية.
أننا نعلم أن البريطانيين لم يتأثروا أثناء الحرب ( ولعدة قرون)، إلا بقائدين هما روميل ونابليون، وهذا الأخير لم يصل إلي مكانته في ميدان القتال.
3- أن أعظم القادة هو أقلهم أخطاء:
وكان روميل أكثر من أسطورة بالنسبة للبريطانيين، فأدي إعجابهم الشديد بقيادته البارعة، أن تحول هذا الإعجاب إلي شبه محبة لشخصه وذلك يرجع إلي استخدامه للسرعة والمفاجأة في عملياته، ولكن زاد علي ذلك، الأسلوب الذي اتبعه في الحرب في أفريقيا ومحافظته علي التقاليد العسكرية الشريفة المهذبة أثناء الحرب، وبسلوكه مسلك الفارس نحو الكثيرين من أسري الحرب الذين قابلهم شخصيا. ولذلك أصبح بطلا في نظر جنود الجيش الثامن البريطاني (الذين كانوا يقاتلون ضده)، لدرجة أنهم إذ أرادوا أن يصفوا عملا مجيدا قام به أحدهم، فقالوا إنه:
“مثل روميل”.
ومثل هذا الإعجاب الشديد بقائد الأعداء، حمل في طياته بذورا خطيرة، بالنسبة للروح المعنوية للجنود، مما اضطر القادة البريطانيين وأركانات حربهم أن يقوموا بمجهودات شاقة للقضاء علي “أسطورة روميل”، وقاموا بدعاية مضادة ولكنها لم تكن قائمة علي تلويث سمعة روميل الشخصية، وإنما كانت قائمة علي الإقلال من شأنه من الناحية الحربية.
وقد مهدت لهم هزائمه النهائية الطريق في هذا المجال، ولا يمكن بالطبع أن نتوقع أن يبين أعداؤه سبب هذه الهزائم وأنها ترجع إلي ضعفه العددي وعجزه القاتل في نواحي الإمداد، ولن يذكروا أيضا ما حققه روميل من انتصارات، علي الرغم من هذه المصاعب والمشكلات التي كانت تواجهه.
وسوف نترك المقارنات الأكثر عدالة، والتقديرات الحقيقية، للتاريخ الذي اعتاد بمضي الزمن أن يصحح النتائج السطحية التي تصاحب عادة كل نصر.
فقد انهزم هانيبال ونابليون ولي ولكنهم ارتفعوا فوق رؤوس هازميهم في موازين التاريخ.
وإذا أردنا أن نحكم بعدل ونزاهة علي أي عمل، يجب أن نأخذ في اعتبارنا الظروف والموارد للطرفين، بالإضافة إلي العوامل الأخري التي تخرج عن نطاق سيطرة القائد، ويمكن عندئذ فقط أن نقدر بطريقة سليمة قيمة الأعمال.
ومن المظاهر البارزة، الأعمال التي حققها روميل مرارا بأقل أو بدون أي تفوق أو سيطرة جوية ولا يمكن لأي قائد آخر (من الجانبين)، أن ينتصر في معارك تحت هذه الظروف، ويستثني من ذلك القائد البريطاني ويفل أثناء قتاله في شمال أفريقيا عند ابتداء الحرب العالمية الثانية ولكننا يجب ألا ننسي أنه كان يقاتل ضد الإيطاليين في ذلك الوقت.
وبالطبع لم تكن انتصارات روميل دون أخطاء بل تكبد خسائر فادحة ونزلت به هزائم كان يمكنه تفاديها، ولكننا إذا علمنا ان القائد الذي يقاتل ضد قوات متفوقة ربما أدي أي خطأ يرتكبه إلي هزيمته، بينما نجد أن القائد الذي يحرز التفوق في موارده بنسبة ضخمة يمكنه أن يرتكب سلسلة من الأخطاء، دون أن يؤثر هذا في النتيجة النهائية.
ويتميز روميل بالإقدام والجرأة والسرعة في الحركة واتخاذ القرارات؛ ينطبق عليه القول المأثور لنابليون “أن أعظم القادة هو أقلهم أخطاء”.
ولكن هذا القول سلبي أكثر من اللازم، لأنه لا يلائم طبيعة الحرب الحديثة، وربما أدي اتباعه إلي حذر خطير.
وربما كان من الأصلح أن نقول : “إن أعظم القادة هو الذي يجبر خصمه علي ارتكاب أخطاء أكثر”. وإذا ما طبقنا هذا القول علي روميل، فإن نجمه يزداد تألقا.
4- روميل يكتب بصراحة:
وإذا أردنا الإنصاف في المقارنة بين القادة المشهورين (في العصور المختلفة) فيجب أن تكون هذه المقارنة أساسها، فنهم العسكري، (الذي يمكن تمييزه من أساليبهم المتطورة في القتال)، علي أن تكون هذه الدراسة مبنية علي الاستخدام الذي قاموا به، بالإمكانات التي كانت في حوزتهم لتحقيق أهدافهم، وخاصة استخدامهم جثمانيا وعقليا. وهنا تبرز القيمة العلمية لمذكرات روميل، ويزيد من قيمتها أنها لم تراجع في ضوء معرفة ما بعد الحرب. بينما كشفت خطابات روميل ( وفي مناسبات كثيرة) الإجراءات التي كان يزمع القيام بها، والطريقة التي يقترب بها من المواقف المختلفة، ولذلك نجد أنه يبين لنا اتجاهاته العسكرية وإمكاناته العقلية.
ومذكرات روميل ستحسم منازعات كثيرة انبرت لأسباب متعددة؛ لأن روميل كتبها قبل أن يجول بذهنه أي شيء عن الخلافات التي نشأت خارج ألمانيا بعد ذلك. وبذا لم تسنح له الفرصة ليرتبها بحيث نتفق مع أي اتجاه.
ومن المدهش أن كتاباته كانت صريحة للغاية، مع علمه بأن هذه المذكرات قد تسقط في أيد غير أمينة.
ويمكن للقارئ من خلال هذه المذكرات أن يري بوضوح عقلية روميل، والطريقة التي كان يعمل بها.
وربما اختلفت الصورة (تبعا لميل القارئ، أو اتجاهاته السابقة)، ولكن ليس هناك أي غموض في الشخصية في حد ذاتها، وفي مظاهرها المختلفة.
وكان روميل رجلا حساسا بجانب طاقته العظيمة وعبقريته العسكرية، إلا أنه (مثل أغلب قادة الجنس البشري)، كان يتصرف بطريقة صبيانية آسرة أثناء فترة انتصاراته العظيمة وكانت تصل في بعض الأحيان إلي حد خطير، فكانت تصل إلي الحد من تفكيره بسبب نجاحه العظيم في فن القيادة (حالة توازن نفسي). وقد ظهر خلال رسائله أنه كان ينظر إلي الحرب في المرحلة المبكرة كما لو كانت لعبة كبيرة، وهذه اللعبة درب نفسه عليها لكي يخدم بها وطنه بكل جوارحه وإخلاصه. ولكي يتمتع القائد بأقصي قوة دافعة يجب أن يشعر بهذا الشعور نحو الحرب، ونجد أن أكثر القادة إقداما كانوا دائما هكذا. وكان روميل يتمتع بقدرة عظيمة علي التأمل ولكنه لم يحاول تخطي المجال العسكري في هذا الصدد إلا في الشهور الأخيرة من حياته.
ولم يكن من السهل علي روميل قبول الآراء المخالفة لرأيه، (مثل في ذلك مثل أغلب العسكريين الذين يتمتعون بشخصية قوية) وخاصة ممن يقاتلون معه في الجانب نفسه وهذا يبدو واضحا في تعليقاته اللاذعة عن هالدر وكسلرينج، وكانت غير عادلة في كثير منها. وكان روميل مريضا أثناء المرحلة الأخيرة من حرب الصحراء، وهذه الحالة أدت بطبيعة الحال أن أصبح غير صبور مختل الآراء، ولكنه لم يكن خبيثا، لأن انفجاره كان بمثابة صمام لتهدئته، وكان علي استعداد لتغيير أحكامه، بعد أن يهدأ غضبه. وقد ظهر ذلك في تقديره لكسلرينج في كتابته الأخيرة. ويضاف إلي هذا أن تعليقاته علي أعدائه (فرنسيين وبريطانيين أو أمريكيين) ظهر فيها التحرر البارز من أغلال الحقد واستعداده للاعتراف بمزاياهم.
5- العبقرية الحربية
ويعتبر موقف روميل الأخير من هتلر، رغم (إخلاصه الطويل له) لغزا بالنسبة للذين لا يفهمون التأثيرات العقلية التي تنشأ من الخدمة الطويلة للجندي المحترف، وخاصة في ألمانيا، ولذلك لن يتخيلوا كيف تبدو الأمور من هذه الزاوية. وقد أدي إدراك روميل وطاقاته الفذة إلي جذبه نحو هتلر، لأن العراقيل التي وضعها في طريقة قادته المباشرين، جعلته يزداد إعجابا بهذا الرجل الذي يتعاون مع مثل هؤلاء الرجال جامدي التفكير.
استمر هذا الحال بالنسبة لروميل طالما كان يلتزم حدود الميدان العسكري. ولكن سلطته المستقلة الواسعة في أفريقيا، والمسائل الأكبر التي كان عليه مواجهتها، والأثر العميق الذي أدي إليه التفوق المادي العظيم للحلفاء كان هذا مهد الطريق لتغيير جذري في موقفه، وقد زاد هذا التغير عند عودته إلي أوروبا واتصاله الوثيق بهتلر. وكان من الجنون أن يكتب هذه المشاعر علي الورق، وقد ظهر في بعض رسائله الأخيرة مجهوده الواضح لإخفائها، ولكن هناك أدلة متناثرة عبر الصفحات، ويؤكدها ابنه وأصدقاؤه المقربون الذين دللوا علي الكيفية التي انتهت به إلي الانهيار، وقراره بضرورة القيام بانقلاب ضد هتلر، فأدي هذا إلي قتله في النهاية.
ولكن الأهمية الأساسية لهذه المذكرات، تنحصر في الضوء الباهر الذي تلقيه علي أسلوب روميل في القيادة العسكرية، وهي تؤكد الأحاسيس التي انتابت الجنود البريطانيين الذي قاتلوه، وهذا يبين أن تقديرهم له كان أصح من الدعاية المضادة التي قامت بها القيادة البريطانية للتقليل من سمعته المخيفة.
وهكذا فإن “أسطورة روميل” كانت علي أساس متين، بخلاف بقية أساطير الحرب. وفيما عدا نجاته من الموت بعض الأحيان، ومن الأسر في أحيان أخري، فإنه يدين للحظ بأقل مما يدين به الكثيرون من القادة الذين وصلوا للشهرة.
وإذا عرضنا عقائد روميل وإنتاجه العقلي للمناقشة الصريحة، يتضح لنا أن انتصاراته لم تكن من قبيل المصادفة، علاوة علي أنها تحمل في طياتها بذور العبقرية الحربية.
وهذا ليس بالمكان الملائم لكتابة تاريخ حياة روميل التي قدمها ديزموند يونج بمهارة في كتابه، والذي يعتبر مكملا لهذا المؤلف. ولكن قد يكون من الأنفع أن نرسم صورة سريعة لأساليب روميل في القيادة، وعلاقتها بالتجربة العامة للحرب، ثم نناقشها باختصار.
نجد أن العبقرية ترتبط بالانفرادية في أغلب المجالات، ومع هذا فإنها تعتبر نادرة بين هؤلاء الذين اعتبروا قادة في التاريخ، فأغلبهم أحرز انتصاراته باستخدامه لمعدات وقوات تقليدية وبطريقة مثالية، ولم يقم سوي القليل منهم باستخدام وسائل وأساليب جديدة. وهذا غريب لأن التاريخ يبين أن مصائر الأمم، تحددت مرارا وتغير وجهها بواسطة التغييرات في الأسلحة والتكتيكات وخاصة في الحرب الأخيرة.
ولكن مثل هذا التطور ينتج دائما عن عقلية فذة لباحث عسكري وتأثيره علي العسكريين التقدميين المعاصرين له، أكثر من كونها ترجع لقائد كبير، ونجد أن الأفكار العظيمة في تاريخ الحرب أقل من القادة العظام، ولكنها كانت ذات آثار أكبر.
والتمييز بين الاثنين يذكرنا بأن هناك نوعين من العبقرية الحربية:
عبقرية فكرية وعبقرية تنفيذية. وفيما يختص بروميل، فإنه جمع بين العبقريتين، وعلي الرغم من أن نظرية البليتز كريج (الحرب الخاطفة) (هي أسلوب الحرب المتطرف في خفة حركته، مستخدما المدرعات والقوات المحملة)، وقد وضعت أصلا في إنجلترا قبل ظهورها علي مسرح الأحداث بزمن طويل، إلا أن إلمام روميل السريع بهذه النظرية، والطريقة التي طورها بها، يبين استعداده العقلي الضخم وقدراته الفكرية. وأصبح روميل الرجل التالي لجوديريان، في تطبيقه لهذه النظرية بنجاح. وهذا يثير الدهشة لأنه في فبراير 1940 حين عين روميل قائدا للفرقة السابعة البانزر، (المدرعة) لم يكن لديه أي خبرة بالدبابات، ثم لم يتوافر له سوي ثلاثة أشهر لدراسة المدرعات والإلمام بأساليب قيادة هذه القوات قبل أن يدخل بهذه الفرقة القتال.
وقد نجحت مدرعات روميل نجاحا باهرا، أدي إلي انهيار فرنسا، فنتج عن ذلك أن أعطيت له فرصة أخري لتطبيق العقيدة الجديدة في أفريقيا، وقد استفاد روميل من ذلك لأنها كانت قيادة مستقلة. (وهذه القيادة المستقلة لم تتيسر لجوديريان في أوروبا، لحسن حظ الحلفاء) وقد أظهر روميل دهاء أعظم في تطبيق هذه النظرية في أفريقيا لأنه مزج الدفاع بالهجوم مع جذب المدرعات المعادية إلي فخاخ منصوبة تمهيدا لقيام مدرعاته بضربات خاطفة للقضاء عليها.
مما يلفت النظر أن روميل هو أحد القادة العظام القلائل الذين اشتهروا كمفكرين وككتاب عسكريين. والأهم من ذلك، أن فرصته لإبراز مواهبه كقائد، جاءت عن طريق كتاباته لأن كتابه عن تكتيكات المشاة، كان أول ما لفت نظر هتلر نحوه، ونتج عن ذلك تمهيد الطريق له إلي المناصب الكبري.
وقد استغل روميل الفرص لأقصي حد، لأنه يتمتع أيضا بالعبقرية التنفيذية ويمكن إدراك درجة تمتعه بها إذا حللنا الصفات التي امتاز بها القادة العظام، الذين عرفهم التاريخ، علي الرغم من أن كل صفة تفاوتت في كل حالة عن الحالة الأخري.
6- روميل وقدرته علي التنبؤ:
فكانت أحسن صفات للقائد في الأزمنة الغابرة، (عندما كانت الجيوش صغيرة وتقاتل بأسلحة قصيرة المدي، وكان ميدان المعركة هو حلبة الصراع. وليس مسرح العمليات) هي: نظرته الثاقبة وهي تعبير يحمل معني دقة الملاحظة مع التقدير السريع لقيمة الأرض.
وكل القادة العظام امتازوا بتمتعهم بدرجة كبيرة بهذه الصفة التي مكنتهم من الإلمام في الحال بصورة الأرض والموقف، وإذا قارنا بينهم جميعا لوجدنا روميل يتمتع بهذه الصفة بدرجة كبيرة جدا. وفي أفريقيا زادت أهميتها نظرا لطبيعة الحرب المدرعة سريعة الحركة وحجم القوات المحدود في هذا المسرح .
أما في الوقت الحاضر، فقد زاد مدي الأسلحة وأصبحت الجيوش أكثر انتشارا وأكثر عددا، لذلك أصبح من الضروري الاهتمام بصفة أكبر وأعمق من (مجرد النظرة الثاقبة) وهي: “القدرة علي التنبؤ”، أي القدرة علي اختراق خطوط الأعداء ببصيرة القائد، والذي عبر عنها ولينجتون بقوله: “معرفة ما يدور في الجانب الآخر للتل”، أي ما يدور خلف خطوط الأعداء وما يدور في عقلية قادتهم. لأن القائد في الوقت الحاضر (أكثر مما مضي) يجب أن يكون متعمقا في دراسته لعلم النفس بصفة عامة ونفسية الخصم بصفة خاصة ودرجة علم روميل وإدراكه لهذه الناحية النفسية، يمكن رؤيتها بوضوح في مذكراته وعملياته.
وهذا الإدراك النفسي (بدوره)، هو الأساس لضرورة أخري أكثر إيجابية، وهي تكون عنصرا من عناصر العبقرية الحربية وهي القدرة علي إحداث المفاجأة والقيام بالحركات غير المتوقعة التي تخل بتوازن الخصم. ولكن ليكون تأثيرها كاملا (كما يبين التاريخ)، يجب أن تكون مصحوبة بإحساس جاد بعامل الزمن، وبالقدرة علي إيجاد أقصي درجة من خفة الحركة والسرعة والمفاجأة، علي أن يكونا ازدواجا ضروريا وهما علي وجه العموم، الصفات الحقة للقيادة، ويتوقف إيجادهما علي ميزة يمكن تسميتها (بالخيال الخارق).
وأن القدرة علي القيام بتحركات غير متوقعة، والإحساس الجاد بعامل الوقت والقدرة علي إيجاد درجة من خفة الحركة الي شل حركة المقاومة.
ولذلك فمن الصعب إيجاد شبيه حديث لروميل، فيما عدا جوديريان، وهو أستاذ الحرب الخاطفة.